الكتاب و مصيره

لن يموت الكتاب الورقي، وسيظل ملازماً لجمهرة القراء أمداً غير منظور، وعليه فالكلمة المطبوعة غير مهددة، كما قد يظن كثيرون.. لا بل إن قيمتها تزداد في صلب العملية التقنية التي تطِّور ظهورها. فعندما نريد مثلاً قراءة شيء على شاشة الحاسوب، ترانا فوراً نحوله إلى الطابعة لتتمظهر السطور بوضوح على الورق الأبيض بين أيدينا، ونأخذ هذه الأوراق ونتعامل معها ككتاب نقرأ مادته، وتظل الكلمات فيه تفرض هيبتها علينا، وكذلك تفرض حنينها الرومانسي مع ما يعتوره من تردد وتوتر «جديدين».

في اليابان، البلد الأكثر تطوراً في العالِم، من حيث استحداث تكنولوجيا الإلكترونيات والوسائط الجديدة، حدث أن دخلت شخصياً مكتبة ضخمة في شارع تجاري في العاصمة طوكيو. وهناك شاهدت يابانيين يدبون دبيب النمل فيها، يستعرضون الكتب ويتخاطفونها شراء، لا بل تنافساً على الشراء.. تقدمت من أحدهم وسألته: أيعقل كل هذا الإقبال على الكتاب الورقي في بلادكم أنتم أهل الطفرات التكنولوجية بامتياز؟ ابتسم الرجل وأجابني بأدب جم: حتى العالم الياباني الذي يسهم إسهاماً مباشراً في تفجير ثورة الكمبيوتر، وعالمها الدقيق الناعم، يميل إلى اقتناء الكتاب الورقي، وتعزيز مكتبته الشخصية بالجديد منه، إننا أيها الضيف لا نستطيع كيابانيين أن نتخلى عن الطاقات الإيحائية التي يمكن للكتاب الورقي أن يثبّتها عميقاً فينا، فنحن نتقصّى أسطورتنا المعرفية الماضية، وأسطورتنا المعرفية الحالية، وتلكم المستقبلية، من خلال هذه العلاقة الحميمة والوشيجة بالكتاب.. وحدها الكلمة المطبوعة يا صاحبي، هي التي تعصف بالياباني، وتقيم فيه ذلكم الرابط الأصيل بين أناه ومصيرها.

وأردف هذا الياباني، الذي تبين لي لاحقا أنه شاعر متميز (ترجمت نماذج من أشعاره) واسمه «بوشيرو ديماهاوا».. أردف يقول لي: أكثر الناس ارتباطاً بالعلم والثورات العلمية في اليابان، أقربهم إلى الشعر والحلم والغنائية، وهؤلاء لا ينتهون من كشوفات حبهم للكتب، ولا من عقد القرانات البصرية مع الكلمات، فالمادة الأدبية، أو العلمية المدونة على ورق «قديم»، أو «حديث»، هي بالضرورة مادة رفيعة وذات مبادلات سامية..

ماذا أقول لك بعد يا صاحبي؟.. وتابع الشاعر الياباني كلامه: إن إلهامات المطبوع أمامي تتضافر كلها لصياغة الأثر.. أثري الذي سأتولى تدبيره لاحقاً، أي بعد رحلة الاستيعاب العقلي والقلبي على السواء، وإياك.. إياك أن تصدق بأن تقدم العلم أو تطوره، مرهون بالخلاص من الضمير الداخلي، ومن معطيات العجائب والأسرار.. وكذلك من الإرث العذري للمعرفة التي يقدمها لك الكتاب الورقي المباشر، نحن أهل اليابان لا يمكننا أن نتخلى عن التقاليد، حتى ولو امتلكنا في الصميم تخوم المستقبلات كلها.

أجل هذا ما قاله لي هذا الشاعر الياباني الوقور.. ويستحوذ عليّ شعور الآن (بعدما تجولت في معرض الكتاب الذي أقفل أبوابه في الكويت منذ يومين) بأن الإنسان الأنموذج الواثق من تقدمه الحضاري في هذا العالم، لا يمكن له أن يعرى من نفسه، وخصوصاً في سياق متغيرات التاريخ التي يصنعها بنفسه، أو يشارك في صنعها.. لا فرق.

ودائماً بالنسبة إلى اليابانيين، نجد تلك النزعة من صوفية المنطلقات والمرامي في مشروعاتهم العلمية، وغير العلمية. وبما أن المستحيل غير موجود في معاركهم التكنولوجية الدقيقة، فإن لغة الروح المشحونة بطاقات أخلاقية وشعرية، يستحيل عليها أن تغيب عن سياقاتهم، الأمر الذي ينتج لنا ثماراً حضارية مهمة لشخصية حضارية هي غير اعتيادية أيضاً.